فَيوم هوسبيتال (نوفيلا)

غلاف

📜 المقدمة 📜

ليست كلّ الأبواب تُفتح بالمفاتيح، فبعضها لا يُفتح إلا باللعنات. وهناك أماكن خُلقت لتُنسى، لا لتُكتشف من جديد. في أعماق الفيوم، حيث الصمت يبتلع حتى أنفاس الريح، يقف مبنى هائل تحجبه الظلال كأن الزمن نفسه قرر أن يتجاوزه. يقولون إنّ جدرانه تحفظ ما لا يجب أن يُروى، وإنّ الأرض تحته ما زالت تنبض بشيءٍ غير الحياة. يخاف الناس من ذكر اسمه بعد الغروب، فمجرد الحروف تُثير قشعريرة غامضة في الأجساد. لكن الفضول أقوى من الخوف... دائمًا. من يقترب منه لا يعود كما كان، لأنّ الداخل إليه لا يواجه الأشباح فقط، بل يواجه ما دفنه في أعماقه منذ زمنٍ بعيد. ليست هذه حكاية عن الجنون، ولا عن الموت. إنها حكاية عن العبور… عن الخط الرفيع بين العلم واللعنة، بين الحقيقة والوهم، بين من يظن أنه يراقب الرعب... وبين من يكتشف أنه أصبح جزءًا منه. فإن سمعت يومًا همسًا في العتمة ينادي باسمك... تذكّر أن بعض النداءات لا تأتي من هذا العالم.

📜 الفصل الأول 📜

الليل في الفيوم لا يشبه أي ليلٍ آخر. النجوم بعيدة، خافتة كأنها تخاف النظر إلى الأرض، والريح تسير فوق الرمال كأفعى تتلوى بين الحجارة. في أقصى التلّ، يقف مبنى ضخم يلوّح للظلام كجثةٍ لم تُدفن بعد — مستشفى الفيوم القديم. أبوابه الحديدية صدئة، نوافذه مكسّرة كعيونٍ طُعنت بمرور الزمن. ورغم مرور عقود على إغلاقه، ما زال البعض يؤكد أن أضواءً خافتة تومض في داخله، وأن أصوات بكاءٍ تُسمع من بعيد، خاصة في الليالي التي يغيب فيها القمر. كان كريم يعرف هذه الحكايات مثل كل أبناء البلدة، لكنه لم يكن مثلهم. في داخله شيء غريب يدفعه دائمًا نحو الممنوع، نحو الأماكن التي يخافها الجميع. قالها في بثه المباشر: "الليلة دي، هأدخل المكان اللي محدش قدر يوصل له من قبل… الفيوم هوزبيتال." ابتسم أمام الكاميرا ابتسامةً مرتبكة، يخفي بها توتره. كان في منتصف العشرينات، نحيفًا، يحمل حقيبة صغيرة فيها بطارية إضافية وكشاف وعدسة ليلية، ومصحف صغير كانت أمه تضعه في جيبه كلما خرج متأخرًا. لم يكن يؤمن باللعنات، لكنه كان يؤمن بالمشاهدات… بالترند. حين اقترب من الباب الرئيسي، خبطت الريح لوحًا معدنيًا صدئًا فأصدر صريرًا كصرخةٍ بعيدة. توقف لحظة، ثم همس في الكاميرا: "حدّ لاحظ الصوت ده؟ مش طبيعي خالص." أضاء الكشاف، فظهر أمامه الباب الحديدي نصف المفتوح. مدّ يده ببطء، ودفَعه… صرخ الباب صرخةً طويلة تقشعر لها الأبدان، ثم انفتح ببطء، كأنه يستسلم. الداخل كان أكثر ظلمة من الخارج. رائحة العفن والرطوبة تضرب الأنف بقوة، وأرضية مغطاة بطبقة كثيفة من الغبار والزجاج المكسور. في الممر الأول، كانت هناك كراسي صدئة، وأسِرّة مهجورة، وملفات متناثرة كأن المكان هُجر على عجل. وجه الكاميرا للأمام وقال بصوتٍ منخفض: "المكان ده فعلاً كأنه متجمد في الزمن… كأنهم خرجوا فجأة ومارجعوش أبدًا." الضوء كشف عن لوحة معدنية على الجدار كُتب عليها بخط باهت: غرفة العزل – ممنوع الدخول. ضحك بخفة عصبية وقال: "واضح إني جِيت على المكان الصح." تقدّم خطوة… ثم سمعها. صوت خفيف، أقرب إلى تنفّس خلفه. التفت بسرعة — لا أحد. رفع الكشاف نحو السقف، فإذا بعنكبوتٍ ضخم يزحف على المصباح المهتز. ضحك محاولًا استعادة رباطة جأشه، لكن قلبه كان يخفق بعنف. تقدّم أكثر داخل الممر، حتى وصل إلى قاعة واسعة كانت تُستخدم فيما مضى كغرفة استقبال. هناك على الأرض رأى شيئًا صغيرًا… دمية بلا رأس. رفعها، تفحصها بالكشاف، فلاحظ على ثوبها الصغير بقعًا داكنة. لم يكن يريد الاعتراف لنفسه أنها تشبه الدم الجاف. "أكيد حد من الزوار المجانين اللي بيدخلوا هنا سايبها..." قالها بصوتٍ مرتجف وأعادها مكانها. لكن في اللحظة التي لمس الأرض، دوّى صوت سقوطٍ حادّ من الطابق العلوي. قفز قلبه في صدره، رفع الكاميرا نحو السقف، وحاول التظاهر بالثبات أمام المتابعين "مفيش حاجة… أكيد حاجة وقعت." ثم جاء الصوت الثاني — خطوات بطيئة فوقه. خطوات ثقيلة، متتابعة، تُصدر صريرًا على الخشب القديم. توقفت فجأة، وكأن من يمشي توقّف ليستمع إليه. "فيه حد فوق؟!" صوته ارتدّ من الجدران لكنه لم يتلقَ إجابة. شعر أن الهواء نفسه تغيّر، أصبح أثقل، كأن المكان بدأ يتنفس معه. تراجع ببطء، محاولًا الوصول إلى الباب الذي دخل منه، لكن الضوء خبا للحظة. في تلك اللحظة، رأى — أو ظن أنه رأى — ظلًّا بشريًا يقف في نهاية الممر. طويل، ساكن، بلا ملامح. تجمد في مكانه، ثم همس لنفسه: "أكيد انعكاس… بس إزاي وهنا مفيش مرايا؟" لم يتحرك الظل، لكنه بدا أقرب حين أضاء الكشاف مرة أخرى. تراجع خطوتين، ثم جرى. صوت خطواته ارتطم بصدى الممر كطلقات في العدم. وحين وصل إلى الباب الحديدي، وجده مغلقًا. شدّه بكل قوته، لكنه لم يتحرك. "افتح بقى… افتح!" صرخ بأعلى صوته، ثم سمع الردّ — صرخة قادمة من خلفه. صرخة أنثوية حادّة، تلتها ضحكة طفل قصيرة ومختنقة. التفت ببطء، والعرق يتصبب من جبينه رغم برودة الجو. لم يرَ أحدًا… فقط الكاميرا التي ما زالت تسجل. رفعها بخوف نحو الجدار، وهناك، في الإضاءة المرتعشة، ظهرت كلمة محفورة بخطٍ غريبٍ على الحائط: "ارجع قبل فوات الأوان." كأن الحروف تنزف دمًا قديمًا. ارتجف جسده بالكامل، وتراجع حتى اصطدم بالباب المغلق. سمع همساتٍ تقترب، كأن أحدهم يقرأ آية بلغة لا يفهمها. ثم ارتفع صوت الصفير في أذنيه، والضوء تلاشى. لحظة واحدة فقط من الصمت… ثم سقطت الكاميرا من يده على الأرض، تسجل آخر لقطة له — ظلال سوداء تتحرك في الممر، تقترب، تبتلع الصورة تمامًا. في اليوم التالي، وجد الناس بثّه متوقفًا فجأة عند الثانية السابعة والثلاثين. الفيديو ظلّ على الإنترنت، يحصد آلاف المشاهدات. في التعليقات، كتب البعض أنهم سمعوا أصواتًا غريبة عند الدقيقة الأخيرة، وآخرون قالوا إن وجهًا ظهر خلفه للحظة، يشبه وجهًا ميتًا. لكن كريم نفسه لم يظهر بعدها أبدًا. لا في البلدة، ولا في أي مكان آخر. وكأن المستشفى ابتلع صوته... ومصيره. بعد أسابيع، وفي مدينة بعيدة في إنجلترا، كان رجل يجلس في مكتبه بين أكوام من البرديات القديمة والمراجع. كان اسمه جوناثان كيلار. يشاهد الفيديو للمرة الخامسة، متوقفًا عند لقطةٍ محددة في الممر الخلفي. هناك، على الجدار، رأى رمزًا محفورًا لا يمكن أن يخطئه نفس الرمز الذي قرأ عنه في برديةٍ نادرة، تتحدث عن أبواب العبور بين العوالم. ابتسم بخفّة وقال لنفسه: الفيوم… يبدو أن الوقت قد حان. أغلق الحاسوب، ودوّن ملاحظة صغيرة في دفتره: رحلة إلى مصر – مستشفى الفيوم القديم." في الخارج، هبّت ريح باردة أطفأت المصباح بجانبه. ولوهلة، ظنّ أنه سمع في العتمة صدى صرخةٍ بعيدة… كأنها تعبر البحر من هناك إلى هنا. كانت تلك بداية العبور إلى فَيوم هوسبيتال.

📜 الفصل الثاني 📜

كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرًا في شقة صغيرة بمدينة أوكسفورد، حين توقف ضوء الشاشة على وجه رجل في منتصف الثلاثينات، ملامحه حادة كالنقش، عيناه زرقاوان تلمعان بقلقٍ مألوف لمن عاش بين الأساطير أكثر مما عاش بين البشر. اسمه جوناثان كيلار، باحث في علم الرموز القديمة وديانات ما قبل التاريخ، يعمل في جامعة أوكسفورد منذ سبع سنوات، لكنّ سمعته لم تأتِ من محاضراته الجامدة، بل من مقالاته الغامضة التي تربط بين العلم والأسطورة، بين الواقع وما وراءه. أعاد تشغيل المقطع الذي أرسله له أحد طلابه المهتمين بالمواقع الغريبة حول العالم. الفيديو الذي سجّله شاب مصري اسمه كريم، داخل مستشفى مهجور في الفيوم. توقف جوناثان عند لحظة محددة، الدقيقة السادسة والثلاثين، حين التقطت الكاميرا لقطات سريعة لجدار خلفي في الممر. هنالك — بين الغبار والخدوش — ظهر الرمز. رمز يشبه عينًا مفتوحة، تحيط بها دوائر متشابكة، تتقاطع عند نقطة مظلمة في المنتصف. لقد رآه من قبل. في برديةٍ قديمة عُثر عليها في معبدٍ مغمور قرب الفيوم نفسها. كانت البردية تتحدث عن "بوابة العبور"، مكانٍ بين الحياة والموت، بين زمنين لا يلتقيان. لكن البردية كانت ناقصة… ينقصها الجزء الأخير، حيث يُقال إن من يكمل الطقس، يستطيع فتح العبور. همس لنفسه: "لا يمكن أن يكون هذا صدفة... نفس الشكل، نفس الموقع." مدّ يده نحو خزانة خشبية في زاوية الغرفة، أخرج منها خريطة مصر القديمة. أشار بإصبعه إلى نقطة وسط الصحراء الغربية، على مقربة من بحيرة قارون. هناك، حيث بُني المستشفى بعد الحرب العالمية الثانية، فوق أنقاض موقع أثري لم يُكمل أحد دراسته. ابتسم بخفة وقال وهو يكتب في دفتره: "إنها ليست مجرد مبنى مهجور… إنها البوابة." في تلك اللحظة، دوّى صوت خفيف في الشقة، كأن شيئًا سقط. التفت سريعًا، لكن كل شيء في مكانه. الريح تهب من النافذة المفتوحة، تُحرّك أوراقه المبعثرة. لكنه لاحظ ورقةً واحدة سقطت أرضًا، كانت نسخة من البردية التي يعمل عليها منذ أشهر. على الهامش ظهر أثر رطوبة غريب، شكل دائرة داكنة تشبه تمامًا النقش في الفيديو. ارتجف للحظة، ثم أغلق الدفتر بعنف وقال بصوتٍ خافت. "مجرد صدفة... لا أكثر." لكنه لم يستطع النوم تلك الليلة. وفي الصباح، حجز أول تذكرة إلى مصر. ( القاهرة – بعد أسبوع) هبطت الطائرة على مدرج مطار القاهرة مع أول خيوط الفجر. السماء تميل إلى الرمادي، والمدينة تتنفس بصخبها الدائم حتى وهي تستيقظ. خرج جوناثان من المطار، حقيبته على كتفه، ونظراته تتأمل الزحام بدهشة الباحث الذي يرى الحياة في أبسط صورها بعد سنوات من العزلة الأكاديمية. كان في استقباله رجل خمسيني من هيئة الآثار يُدعى الدكتور سامي عبد الرازق، الذي تلقى رسالة منه قبل يومين يطلب فيها إذنًا لدراسة مستشفى الفيوم القديم باعتباره “موقعًا ذا أهمية أثرية محتملة”. صافحه الدكتور سامي مبتسمًا وقال: "أنت الباحث اللي جاي مخصوص عشان مستشفى مهجور؟ دي أول مرة أشوف حد مهتم بالخرابة دي." ضحك بخفة وأضاف: "بس الفيوم مليانة أسرار يا مستر كيلار... يمكن تلاقي اللي بتدور عليه فعلاً." ردّ جوناثان بابتسامة غامضة: "أنا لا أبحث عن الخرابات، بل عن الحقيقة التي تتركها خلفها." بعد إجراءات قصيرة، استقلّا سيارة متجهة إلى الفيوم. الطريق امتد طويلاً بين الصحراء والبحيرات الهادئة. كان الغبار يتراقص على الزجاج، والهواء مشبع برائحة الطين والماء. قال سامي وهو يقود: "المستشفى دي اتبنت في الأربعينات، وكان في وقتها من أكبر مستشفيات الصعيد. لكن فجأة… حصلت حرائق غريبة، ومات مرضى كتير. من ساعتها والناس بتقول إنه ملعون. محدش بيقرب منه حتى النهارده." ظلّ جوناثان صامتًا لبرهة، يدوّن ملاحظاته في دفتره، ثم سأل بهدوء: "هل عندكم أي سجلات رسمية لتلك الحوادث؟ أو أسماء الضحايا؟" هزّ سامي رأسه: "اختفوا مع ملفات المستشفى قبل ما يتقفل. كأن المكان ابتلع تاريخه." تأمل جوناثان الطريق الممتد، وغمغم كأنه يحدّث نفسه: "بل ربما التاريخ هو من ابتلع المكان..." (مدخل الفيوم) حين اقتربا من البلدة، خيّم الضباب على الطريق كستارٍ رمادي كثيف. ظهرت مآذن بعيدة فوق الس roofs الطينية، وصوت الأذان امتزج مع نباح الكلاب وأصوات الطيور. كان كل شيء يوحي بالسكينة… إلا في تلك اللحظة التي لمح فيها جوناثان التلّ البعيد. هناك، بين السحاب والغبار، ظهر المبنى — فيوم هوزبيتال. ضخم، صامت، كأنه يراقب القادمين إليه من بعيد. توقفت السيارة على مسافة. مدّ جوناثان يده إلى جيبه، أخرج الخريطة، وأعاد النظر إلى النقطة المرسومة باللون الأحمر. الموقع مطابق تمامًا. قال بهدوء وهو يحدّق في المبنى: "هنا تبدأ الحقيقة." لكن سامي وضع يده على كتفه وقال بحذر: "لو هتدخل المكان ده، لازم تبقى حذر. في ناس دخلت ومارجعتش، وأنا مش بهوّل." ابتسم جوناثان دون أن يحول نظره عن المبنى: "لا تقلق يا دكتور… أنا لا أبحث عن العودة، بل عن الإجابة." في تلك اللحظة، هبّت ريح قوية حملت معها رائحةً غريبة — مزيج من العطن والدم. ارتعش غصن شجرة قريبة، وصوت معدني خافت دوّى من جهة المستشفى… كأن بابًا ما انفتح وحده هناك. تبادل الرجلان النظرات، لكن جوناثان لم يتحرك. كان يعلم، في أعماقه، أن المستشفى دعاه. مدّ يده ببطء نحو جيبه، أخرج البردية القديمة، نظر إلى رمز العين المفتوحة وقال بصوتٍ خافت بالكاد يُسمع: "لقد وجدتِ بوابتك أخيرًا…" ذلك المساء، نزل في فندق صغير يطل على بحيرة قارون. كتب في مذكرته: اليوم الأول في الفيوم. كل شيء يبدو طبيعيًا… عدا الصمت الذي يسبق شيئًا لا أعرفه بعد. وقبل أن يطفئ المصباح، نظر من النافذة نحو التلّ البعيد. هناك، فوق الظلام، كان يلمح ومضة ضوء خافتة قادمة من داخل المستشفى — ومضة كأنها تحية ترحيب. لم يكن يعلم أن الليلة القادمة ستكون آخر ليلةٍ هادئة في حياته.

📜 الفصل الثالث 📜

كانت الشمس تميل إلى الغروب عندما خرج جوناثان كيلار من الفندق الصغير في قلب الفيوم، يحمل حقيبته الجلدية الثقيلة وكأنه يحمل فوق كتفه عبء قرنٍ من الأسرار. الهواء هنا مختلف، مزيج من الغبار والرطوبة ونفَسٍ قديمٍ لا يعرف الزمان. من بعيد، كانت بوابة الفيوم — القوس الحجري المائل عند أطراف المدينة — تقف كأنها حدّ فاصل بين العالم المعروف… والعالم الذي نسيه الجميع. انتظر عند الطريق الترابي سيارة “الجيب” التي اتفق أن تأتيه بها ليلى، المرشدة المحلية التي عرفه عليها دكتور سامي، أستاذ التاريخ المصري القديم. لم تكن ليلى من النوع الذي يُغري بالمغامرة؛ عيناها الداكنتان تحملان قلقًا دفينًا، وشعرها مغطى بطرحة رمادية، كأنها تحاول أن تخفي ملامحها من أعين الصحراء. توقفت السيارة أمامه، وأخرجت رأسها من النافذة: – إنت جوناثان؟ – نعم… أنتِ ليلى؟ – للأسف، أيوه أنا. يا ريت تقولّي إن الرحلة دي نزهة عادية. ابتسم ابتسامة خفيفة وهو يغلق باب السيارة خلفه: – نزهة إلى قلب الجحيم، يمكن. سارت السيارة عبر طريق متعرّج، لا أثر فيه لأي حياة. الرمال تمتد بلا نهاية، والضباب الرمادي يزحف ببطء من بعيد، كأنه يراقب خطواتهما. كانت ليلى تلتفت كل بضع دقائق نحو المرايا الجانبية، كأنها تخشى أن شيئًا ما يتبعهم. قالت بصوت خافت: – عارف إن المستشفى دي الناس بتتكلم عنها من سنين؟ – سمعت. يقولون إنها مغلقة بسبب حوادث غامضة. – مش بس كده. في ناس بيقولوا إن المبنى اتبنى فوق مقابر قديمة، وإن اللي يدخلها ما بيطلعش… أو بيطلع، بس مش هو. ظلّ جوناثان صامتًا، يراقب الطريق. كلما اقتربا، أحسّ أن الجو أثقل، كأن الصحراء نفسها ترفض أن تبوح بأسرارها. وفجأة، ظهرت أمامهما لافتة صدئة، بالكاد تُقرأ عليها كلمات متآكلة: “المستشفى العام – الفيوم – مغلق بقرار وزاري منذ 1963”. توقفت السيارة، ونظرت ليلى نحوه: – هنا تبدأ القصة اللي ما حدش حب يعرف نهايتها. – وأنا جئت لأعرفها. ترجلا من السيارة، والريح تعصف بالرمال حولهما، فبدت اللافتة كأنها تئنّ من وجعٍ قديم. من بعيد، كانت المستشفى تقف شامخة، جدرانها الرمادية مشققة، والنوافذ مظلمة مثل عيونٍ راقبت كل شيء ولم تنم منذ عقود. الضباب يحيط بالمكان، وصوت الريح يعزف نغمة حزينة أشبه بالأنين. اقتربا ببطء. ليلى تتردد، تخطو خطوة ثم تتراجع، بينما جوناثان يرفع الكشاف أمامه في ضوء المغيب. قالت له وهي تهمس: – لو حسّيت بأي حاجة غريبة، هنرجع فورًا. – لا تقلقي، لن ندخل قبل أن نعرف ما نبحث عنه. أخرج خريطته القديمة من الحقيبة، تلك التي وجدها في أرشيف لندن، وأشار إلى دائرة حمراء صغيرة. – هنا… على المدخل الغربي. يقولون إنها بوابة العبور، كانت تُستخدم لإغلاق الأرواح داخل المبنى. نظرت إليه ليلى بدهشة، ثم تمتمت: – يا ساتر… يعني إحنا مش رايحين نصور بس؟ – نحن ذاهبون لنفهم. وقفا أمام البوابة الحجرية القديمة — نصفها متهدم، ونصفها الآخر مغطى برموز غريبة محفورة بعناية، بعضها يشبه نقوش القرابين الفرعونية، وبعضها أشبه بكتابات طلاسم. مدّ جوناثان يده ولمس الحجارة بأطراف أصابعه… كانت باردة رغم حرارة الجو، وكأنها تتنفس من عالمٍ آخر. في اللحظة نفسها، هبت ريحٌ قوية، وأصدرت البوابة صريرًا خافتًا كأنها تتحرك من تلقاء نفسها. تراجعت ليلى بخوف، وصرخت: – جوناثان! الباب بيتحرك! – لا… إنها ليست الريح. هناك ضغط من الداخل! ثم خيّم صمت غريب. صمت أثقل من الضجيج نفسه. نظر جوناثان حوله، فشاهد على الرمال رمزًا محفورًا حديثًا — نفس الرمز الذي شاهده في الفيديو القديم. انحنى ليلتقط صورة، لكن الكشاف انطفأ فجأة. لم تعد ليلى تراه. لم تسمع سوى صوته يقول من بعيد: – لقد فُتحت… البوابة! وفي تلك اللحظة، ترددت في الأفق صرخة لم تكن بشرية، صرخة كأنها من باطن الأرض نفسها، تهز الهواء من حولهما…

📜 الفصل الرابع 📜

لم يكن الصدى مجرد صوتٍ يملأ الصحراء، بل كأن الأرض نفسها ارتجفت تحتهما. الضباب ازداد كثافة، والريح تدور حول جوناثان وليلى كدوامة رمادية تبحث عن جسدين لابتلاعهما. كان الكشاف مطفأ، ومع ذلك شعر كلاهما بأن الضوء لا لزمهما بعد الآن… لأن شيئًا في الداخل بدأ يضيء من تلقاء نفسه. قالت ليلى بصوتٍ مرتجف: – لازم نرجع… دي مش بوابة، دي قبر مفتوح! – القبور لا تُفتح وحدها، ليلى… هناك من ينتظرنا خلف هذا الباب. تراجع الضباب قليلًا، لتظهر أمامهما بوابة المستشفى الرئيسية — حديد صدئ وأبواب زجاجية مكسورة، تتدلى منها خيوط العنكبوت مثل ستائرٍ من الموت. كانت الأبواب تُفتح ببطء، كأنها تتنفس. تبادلا النظرات، ثم قال جوناثان بحزم: – إذا عدنا الآن، لن نعرف أبدًا ما حدث هنا. – ومين قال إننا لازم نعرف؟ – الفضول… إنه اللعنة الوحيدة التي لا تُغفر. تقدما بخطواتٍ ثقيلة، حتى دخلا الردهة الرئيسية. كانت الرائحة خانقة؛ مزيج من العفن والرطوبة والحديد الصدئ. الهواء بارد على غير المعتاد، والأرضية مغطاة بطبقة من الغبار السميك، لا يجرؤ أحد على لمسها منذ عقود. عُلّقت لوحات مكسورة على الجدران، تُظهر وجوه أطباء وممرضات من خمسينيات القرن الماضي، ملامحهم باهتة كأنها مطموسة عمدًا. توجه جوناثان نحو مكتب الاستقبال، فوجد على الطاولة سجلًّا طبّيًا مغطى بالرماد. فتح إحدى صفحاته فوجد اسمًا مكتوبًا بخطٍ مهتز: "مريض رقم 13 – حالة عزلة تامة – يُمنع الاقتراب". تجمّدت ليلى مكانها. – مريض رقم 13؟ ده نفس الرقم اللي الناس كانت بتحكي عنه. المريض اللي صرخ يوم الإغلاق، وقال إن المستشفى بتاكل الأرواح. – إذًا، غرفة العزلة حقيقية… ليست أسطورة. بينما يتحدثان، دوّى في الممر الطويل صوت خطواتٍ سريعة، كأن أحدهم يجري. وجاء الصوت من الجهة اليسرى، من خلف باب خشبي قديم نصف مغلق. اقترب جوناثان ببطء، رفع الكشاف، ثم دفع الباب. الغرفة كانت صغيرة، بداخلها سرير معدني وكرسيّ مكسور وسلسلة حديدية تتدلّى من السقف. على الجدار، كُتبت كلمة واحدة بالدم: "اسمعهم". همست ليلى بخوف: – يا رب سترك… اسمع مين؟ – الأرواح، ربما. وفجأة انطفأ الكشاف مرة أخرى. لكن الغرفة لم تظلم؛ بل أضاءت جدرانها بنورٍ خافت بلونٍ أزرق بارد، قادم من شقٍ في الحائط. اقترب جوناثان ولمس الحجارة، فاكتشف أنها تتحرك عند لمسها، كأن الجدار يخفي خلفه ممرًا. – ليلى، ساعديني نفتح دي. – مستحيل، دي مش غرفة عادية، دي حاجة مدفونة عن قصد! لكن الفضول غلبهما، فدفعت معه الحجارة حتى انزاحت قطعة كبيرة من الجدار، كاشفة عن باب معدني أسود، مكتوب عليه بخط لاتيني باهت: “Isolation Wing – الجناح المعزول”. في تلك اللحظة، سمعا ضحكة طفلٍ تأتي من داخل الممر، ناعمة، قصيرة… ثم تلتها ركلة قوية من الجانب الآخر للباب جعلته يرتج. تراجعت ليلى وهي تصرخ: – في حد جوّا! – أو شيء… كان في الداخل منذ البداية. مدّ جوناثان يده نحو القفل، وفتحه ببطءٍ غريب، كأن الباب ينتظر هذه اللحظة منذ زمن بعيد. صدر صرير طويل حادّ، ومعه هبّت رائحة عفنٍ لا تشبه أي شيءٍ بشري. أضاء الكشاف مجددًا، ليكشف ممرًا طويلًا مظلمًا تتدلّى من سقفه مصابيح مكسورة، وجدرانه ملطخة ببقع بنية قاتمة. تقدما بحذر. الضحكة تحولت إلى بكاء، ثم إلى أنين متقطع، ثم إلى صوت تنفس خلفهما. استدارا سريعًا، فلم يجدا أحدًا. لكن الأرضية كانت تتحرك بخفة تحت أقدامهما، كأن شيئًا يزحف أسفل البلاط. اقتربا من بابٍ آخر في نهاية الممر. كانت عليه لوحة معدنية محفور فيها رقم: 13. قالت ليلى وهي تمسك بذراعه بقوة: – جوناثان، لو فتحت الباب ده، محدش فينا هيخرج. – لو ما فتحناش، هيفضل السؤال قاتلنا. ببطءٍ لا يُحتمل، أدخل المفتاح الذي وجده على المكتب في القفل الصدئ، ودار المفتاح بصوتٍ معدني غليظ. ثم… انفتح الباب. اندفع هواء بارد كالثّلج، أطفأ الكشاف للحظة، لتظهر في الظلام هيئة شخصٍ جالس على السرير. وجهه غير واضح، لكنّ عينيه تلمعان بلونٍ أحمر باهت. قال صوت أجشّ من العتمة: – تأخرتوا… الغرفة كانت مستنية حد يكمّل العلاج. صرخت ليلى وسقطت للخلف، بينما تجمّد جوناثان في مكانه، لا يستطيع أن يتحرك أو يصرخ. الهواء أصبح أثقل من أن يُتنفس، والباب أغلق من تلقاء نفسه خلفهما.

📜 الفصل الخامس 📜

لم يكن الهواء داخل الغرفة مثل أي هواءٍ آخر؛ كان ثقيلاً، كأنّ ذراته تحمل أنفاس من عاشوا وماتوا هنا. الظلام لم يعد مجرد غيابٍ للضوء، بل كيانًا له وجود… يراقب، ويتنفّس، ويقترب. وقف جوناثان أمام السرير الحديدي الذي صدأ بالكامل، وبجانبه منضدة صغيرة مائلة، فوقها ملفّات طبية مبللة. مدّ يده لواحد منها، وبدأ يقرأ بصوتٍ مرتجف: “الحالة رقم 13 – الاسم: غير معروف – الحالة العقلية: هلاوس سمعية وبصرية – الإجراء: عزلة تامة – ملاحظات الطبيب: المريض يرى أرواحًا في الجدران، ويتحدث بلغة غير مفهومة.” رفع نظره نحو ليلى، التي كانت تحدّق بالجدار الخلفي وكأن شيئًا ما يجذبها. قالت بصوتٍ خافت: – "بلغة غير مفهومة؟ يعني سحر؟" – "ربما. لكن انظري هنا،" أشار إلى توقيع الطبيب أسفل الصفحة، – "التوقيع باسم ‘د. نادر شفيق’… نفس الاسم اللي كان مذكور في أرشيف المستشفى اللي شفته في لندن." أغلقت الملفّ ببطء، بينما صوت خفيف أشبه بالهمس انساب من بين الجدران. في البداية ظنّته صدى الريح، لكن الكلمة كانت واضحة جدًا… – "ليـــــلى." تجمّدت ملامحها، اتسعت عيناها: – "جوناثان… حد ناداني!" – "من؟!" – "الصوت… من الجدار ده!" اقتربا من الجدار الخلفي، كان مغطّى بطبقة من الإسمنت الرمادي المتشقق. وضع جوناثان أذنه عليه، فسمع أنينًا مكتومًا، يليه خربشة خفيفة كأن شيئًا يحاول الخروج من الداخل. ثم جاءت الهمسة من جديد، أوضح هذه المرة: – "ساعديني يا ليلى… بردانة." ارتجفت أطرافها وهي تتراجع خطوة إلى الوراء: – "ده صوت بنت! صوتها صغير…! لا، أنا مش سامعة ده بجد!" – "هدِّي نفسك، يمكن صدى من الخارج—" لكن الأرض اهتزّت تحت قدميهما فجأة، وانطفأ الكشاف من جديد. لم تعد الغرفة مضاءة إلا من وميضٍ خافتٍ أزرق ينبعث من بين شقوق الجدار نفسه، كأن شيئًا حيًّا ينبض خلفه. رفع جوناثان هاتفه ليلتقط صورة، فانفجر الضوء للحظة، كاشفًا ظلّ طفلة صغيرة واقفة خلف الجدار الشفاف جزئيًا، وجهها مطموس، لكنها تنظر مباشرة إلى الكاميرا. صرخت ليلى وابتعدت للخلف: – "في حد جوّا! في حد جوّا الحيطة!" – "إنها ليست حيّة… أو ليست ميتة تمامًا." اقترب جوناثان أكثر، ولمس الشقّ بيده. كانت الحجارة باردة كالجليد، ثمّ بدأت تتحرك ببطء، كأن أحدهم يردّ اللمسة من الجهة الأخرى. حينها خرج من الحائط صوت تنفّسٍ واضح، تبعته كلمة واحدة بلغة غريبة، لغة تشبه العبرية القديمة ممزوجة بأصوات همس: – “Sha’el…” نظر إليها وقال: – "سمعتي الكلمة دي؟" – "أيوه… بس أنا معرفهاش." – "أنا سمعتها قبل كده… معناها في النقوش القديمة: البوابة الأولى." سكتا لحظة. ثم لاحظا أن الملفات على المنضدة بدأت تتحرك من تلقاء نفسها، تتناثر في الهواء كأوراقٍ تعصف بها ريح خفية. كل ورقة تحمل صورة وجهٍ مختلف: مرضى، أطفال، نساء… جميعهم بعينين مفرغتين، كأنهم يراقبون الزائرين من الماضي. ليلى تغمض عينيها وتتمتم بدعاءٍ خافت، بينما يتقدّم جوناثان أكثر نحو الجدار: – "أريد أن أرى ما وراءه." – "إنت مجنون!" – "لو كنا سنفهم ما حدث هنا، يجب أن نفتح هذا الجدار." يُخرج من حقيبته مطرقة صغيرة استخدمها في أعمال التنقيب، ويضرب الحائط ضربة واحدة… فتتطاير شقوقٌ مضيئة عبر الجدار كشبكة كهربائية. ومن بين الشقوق، تتسرّب أصوات بشرية متداخلة: بكاء، ضحك، صراخ، تلاوة بلغة لا تُفهم. تراجع خطوة، ثم فجأة انفتح جزء من الجدار ليسقط أرضًا، كاشفًا عن ممرّ ضيّق مضاء بضوءٍ أزرق باهت، تتدلّى على جدرانه صور أشعةٍ لأدمغة بشرية. كل صورة منها كتب عليها تاريخ وفاة، لكن آخر واحدة… كانت تحمل اسمًا مألوفًا. اقترب جوناثان، وعيناه تتسعان: – "ليلى، شوفي الاسم ده!" – "… جوناثان كيلار." تجمد الدم في عروقه. – "ده مش ممكن… الصورة دي ليّا؟! ده تاريخ النهارده!" وقبل أن ينطقا بكلمة أخرى، أُغلِق الممرّ فجأة خلفهما بصوتٍ مدوٍّ، وانطفأ الضوء الأزرق لثوانٍ، ثم عاد ليُظهر على الجدار كلمات جديدة لم تكن موجودة من قبل: “تمّ فتح البوابة الأولى.” صوت الطفلة عاد من بعيد، هذه المرة ضاحكًا: – "لسه فاضل أربع." تبادلا النظرات في صمتٍ مرعب، ليدركا أن ما عاشاه لم يكن إلا بداية سلسلةٍ من الطقوس القديمة… وأن الغرفة لم تكن للعزلة، بل للاستدعاء.

📜 الفصل السادس 📜

كانت الإضاءة تتراقص في الممر كأنها تتنفس خوفًا. الهواء بارد لدرجة أن أنفاس ليلى كانت تتكثف كالدخان أمام وجهها. مشى جوناثان بخطوات مترددة نحو باب معدني ضخم عليه لوحة صدئة كتب عليها "المشرحة". دفع الباب ببطء فصدر صوت صرير كأن المكان يحتجّ على عودتهم. كان الظلام هناك أكثر سمكًا، والهواء أثقل من أن يُستنشَق. رائحة المواد الكيميائية اختلطت برائحة العفن، كأن الزمن توقف منذ آخر جثة وُضعت هنا. قالت ليلى بصوت مرتجف: "جوناثان... خلينا نرجع، المكان ده مش طبيعي." لكن الفضول كان أقوى من الخوف، فسلّط ضوء الكشاف على أحد الأحواض المعدنية الطويلة. كانت أكياس سوداء مصطفّة كأنها تنتظر دورها الأخير. فجأة... اهتز أحد الأكياس. تجمّدت ليلى في مكانها، بينما مدّ جوناثان يده مرتجفًا ليفتح السحاب ببطء. الجثة كانت بلا ملامح واضحة، وكأن وجهها ذاب. وعلى صدرها كان محفورًا رمز غريب يشبه العين، لكن في منتصفها حلقة دائرية صغيرة، نابضة كأنها تنظر إليهما. اقترب أكثر، ولمح نفس الرمز منقوشًا داخل الحوض المجاور، محفورًا بعناية في الفولاذ الصدئ، يلمع رغم الغبار. همس لنفسه: "ده نفس الشكل اللي شُفته في الفيديو..." وفجأة بدأت الأكياس الأخرى تتحرك. صوت صرير البلاستيك يملأ المشرحة، وأصوات التنفس تأتي من العدم. هرعت ليلى إلى الباب، لكنه انغلق وحده بقوة جعلت الجدران تهتز. ثم رأى جوناثان ما لم يتوقعه: ظلّ شخص يرتدي معطفًا أبيض يمرّ خلف الزجاج المعتم، ثم يختفي. لم يكن هناك أحد غيرهما. بدأت الأضواء تومض، وفي ومضة منها رأى مشهدًا لماضي المستشفى: طبيب يقف فوق طاولة جثة، يقرأ من كتاب غريب بلغة لا يفهمها أحد. حوله رموز متوهجة على الأرض، وصوت أنين ينبعث من الجثة وكأنها تحاول الكلام. تراجع مذعورًا، فوجد ليلى ممددة على الأرض، تتنفس بصعوبة، بينما أصوات كثيرة تهمس حولهما: "العين فُتحت... والبوابة تقترب..." اقترب منها، أمسك يدها وهو يرتجف: "ليلى! افتحي عينيكي!" لكنها لم ترد. وفي اللحظة التي حاول فيها رفعها، انطفأت الأنوار تمامًا، واشتعلت العين المنقوشة على الحوض بضوء أحمر خافت، وخرج من الجدران بخار أسود كثيف كأن شيئًا يُبعث من بين الموتى. بدأ جوناثان يقرأ بصوت مرتفع من الأوراق القديمة التي جمعها من غرفة العزلة، لعلها تكون تعويذة عكسية لما يحدث. كان صوته يختلط بصراخ يأتي من كل زاوية، صراخ لمرضى، لأطباء، لأرواح لا تريد العودة. ثم ساد صمت مفاجئ. سقط الضوء الأحمر عن العين. لكن قبل أن يلتقط أنفاسه، سمع صوت ليلى — ليس بصوتها — يقول من خلفه: "المقبرة لم تنسَ... لقد اقتربنا من البوابة..."

📜 الفصل السابع 📜

الساعة تجاوزت منتصف الليل. الظلام في المستشفى أصبح أكثر كثافة، كأن الجدران نفسها بدأت تتنفس هواءً بارداً متعفناً. خرج جوناثان وليلى من المشرحة ببطء، وهما يتركان خلفهما أكياس الجثث التي عادت إلى سكون غامض بعد أن تحركت وحدها قبل دقائق. الكشاف بين يدي جوناثان بدأ يضعف ضوؤه، بينما خطواتهما ترتد أصداؤها في الممر الطويل الملطخ ببقع صدأ داكنة. قال جوناثان بصوت مرتجف: "ليلى... سمعتي ده؟" توقفت، ثم أمالت رأسها نحو اليسار. من خلف الجدار، انبعث صوت أشبه بأنين طويل، يمتد ثم ينقطع فجأة. اقتربت بخوف، وضعت كفها على الحائط الخشن، لتشعر بنبض خفيف تحته، كأن الأرض تحتها ليست صلبة بل حيّة. همست: "ده مش صوت واحد… دول كذا صوت بيتكلموا سوا." رفع جوناثان الكشاف نحو الأرض، فاكتشف لوحة معدنية صغيرة سقطت من أحد الجدران. قرأ ما كُتب عليها بصعوبة: "موقع البناء رقم 17 – حفريات 1922" اتسعت عيناه. “الحفريات…؟ دي سنة اكتشاف مقابر الفيوم القديمة.” نظرت ليلى إليه، وشيء من الذعر يشتعل في عينيها: "يعني المستشفى اتبنت فوق مقبرة فعلاً؟" لم يجيبها. فقط أضاء الأرض أكثر، حتى بدأ الغبار يتحرك، وكأن شيئاً من تحتهم يستيقظ. ثم، بدأ الهواء يثقل… أصوات الهمسات صارت واضحة. "أعيدوا ما سُرق..." "الرمز المكسور..." "الدم لم يجف بعد..." تراجعت ليلى وهي تضع يديها على أذنيها، لكن الأصوات لم تأتِ من الخارج، بل من داخل رأسها. صرخت: "اسكتوااا!" أمسكها جوناثان من كتفيها، يهزها ليعيدها للوعي، لكن فجأة انقطعت الإضاءة تماماً. ظلّ الصمت للحظة، قبل أن تعود الإضاءة باهتة متقطعة… ومع كل ومضة، تظهر وجوه شاحبة خلف الزجاج المكسور للأبواب. وجوه بلا ملامح، تذوب في الظلام وتعود من جديد. همس جوناثان: "دي أرواحهم… أرواح اللي اتدفنوا هنا." من بعيد، انفتح باب تلقائياً وأصدر صوتاً حديدياً حاداً، كأنه يدعوهم للدخول. اقتربا منه ببطء، فوجداه يؤدي إلى سرداب ضيق ينزل للأسفل بسلالم حجرية. الهواء هناك أثقل، ممزوج برائحة تراب ورطوبة وموت. نزل جوناثان أولاً وهو يضيء الكشاف أمامه، ووراءه ليلى ترتجف، تمسك بجانبي السلم كأنها تخشى أن تُسحب. كل خطوة إلى الأسفل كانت تصاحبها همسة جديدة أقرب إلى الكلام: "رجعوا القناع..." "القناع المقدس... بوابة البقاء..." عند نهاية السلم، وجدوا باباً حجرياً نصف مفتوح. دفعه جوناثان ببطء، فصدر صرير طويل كأن الحجر يصرخ من الألم. وخلف الباب… مقبرة. صفوف من التوابيت القديمة تحيط بالمكان، بعضها مفتوح، والآخر مكسور. الجدران مغطاة برسومات فرعونية غريبة: شمس سوداء، وعيون مفتوحة، وأذرع ممدودة نحو الأعلى. لكن ما جعل قلب جوناثان يتوقف هو أنه رأى الرمز الذي كان يبحث عنه… رمز العين داخل الدائرة، نفسه الذي رآه في الفيديو الأول. اقترب منه وأضاء عليه، فبدأت النقوش تلمع بضوء خافت، كأنها استجابت للضوء. قال بصوت متقطع: "ده… نفس الرمز… ده المفتاح الخامس!" لكن قبل أن يكمل، دوى صوت انفجار خافت في الأعلى، وتبعته موجة هواء باردة. التوابيت ارتجفت، وتطاير التراب من الأرض، وبدأت الأصوات تتحول إلى صرخات بشرية حقيقية. ليلى سقطت على الأرض، تمسك رأسها وتصرخ. اقترب منها جوناثان يحاول رفعها، لكن جسدها بدأ يرتعش بشدة. عينها اليمنى صارت زجاجية كأنها تعكس ضوءاً من مكان آخر، وصوتها خرج غريباً، مزدوجاً، فيه نغمة رجالية عميقة: "أنتم دنستم مقابرنا... لن تُغلق البوابة حتى تعود القرابين..." تراجع جوناثان مذهولاً. حاول يناديها: "ليلى! فوقي! أنا جوناثان!" لكنها نظرت إليه بنظرة جامدة وقالت بصوت غريب: "أنت المختار لتفتح... لا لتغلق..." ثم فقدت الوعي فجأة. حملها بسرعة إلى الخارج، لكن حين خرج إلى الممر، وجد أن الأبواب كلها قد أغلقت تلقائياً. الأضواء انطفأت، والممر غمره ضوء أحمر خافت ينبعث من أسفل الجدران، كأن الأرض نفسها تنزف. تقدم بخطوات مترددة، يسمع همساً يتكرر بلا توقف: "أعيدوا ما سُرق..." "القناع... القناع..." نظر حوله بحثاً عن القناع، فتذكر المشهد الذي رآه في رؤيته في المشرحة: قناع ذهبي مفقود من وجه أحد الموتى. همس لنفسه: "يمكن هو ده المفتاح..." اقترب من غرفة قديمة كانت مغلقة منذ البداية، ودفعها بقوة. في الداخل، وجد صندوقاً خشبياً مغطى بالرماد. فتح الصندوق… وهناك، كان القناع الذهبي مغطى ببقع دم قديم. رفعه بحذر، وما إن لامسه حتى اشتعلت الأرض تحته بضوء أحمر قوي، والهمسات تحولت إلى صرخات جماعية. أمسك رأسه من الألم، وكل شيء من حوله بدأ يدور… الأصوات، الجدران، حتى جسده شعر أنه يُسحب من مكانه. ثم سمع آخر ما ميزه: "بوابة العبور فُتحت..." سقط على الأرض فاقد الوعي، بينما المقبرة تهتز والجدران تتصدع، ووجه ليلى الملقى بجانبه بدأ يضيء بخيوط من نور غامق. لم يكن يعلم أن هذه اللحظة ستفتح أخطر فصل في لعنات الفيوم… الفصل الذي لن ينجو منه أحد.

📜 الفصل الثامن 📜

استفاق جوناثان على صوت خافت يشبه دقات قلب تحت الأرض. لم يكن متأكدًا إن كان الصوت في رأسه أم في المكان نفسه. رفع رأسه ببطء، وشعر بدوار عنيف. الأرض حوله مغطاة بطبقة من التراب والرماد، وضوء أحمر خافت ينساب من الشقوق في الجدران، كأن الجحيم نفسه يزحف صامتًا من الأسفل. مد يده إلى جواره، وجد ليلى ممددة بلا حراك. اقترب منها بخوف، وضع يده على عنقها، فشعر بنبض ضعيف جدًا. تنفس الصعداء، ثم لاحظ أن على جبينها خطوطًا مضيئة ظهرت فجأة — رموز دقيقة تتحرك ببطء كأنها تُرسم من الداخل. تمتم بصوت مبحوح: "الرموز الخمسة... اتجمّعت فيها." جلس للحظة يسترجع ما حدث. الرؤى، الهمسات، القناع الذهبي… كل شيء كان يقوده لهنا، للغرفة الأخيرة التي تُسمى في مخطوطات المستشفى باب العبور. تذكر جملة كان قد قرأها في أحد الملفات القديمة: "حين تكتمل الدائرة، يتكلم الحجر… وتُفتح الطريق بين ما هو كائن وما كان." نهض بصعوبة، متكئًا على الجدار. كان يشعر أن الهواء نفسه ثقيل، مشبع بصوت غامض لا يُسمع لكنه يُحس، كذبذبة تمر في العظام. الكشاف في يده ارتعش ضوؤه، ثم استقر على نهاية الممر… حيث كان هناك باب معدني ضخم، يختلف عن كل أبواب المستشفى. اقترب منه ببطء. الهواء أمام الباب كان أبرد من أي مكان آخر، وجداراه مليئان بالرموز نفسها التي وجدها في كل غرفة. مد يده ولمس المعدن، فشعر بتيار كهربائي يسري في جسده. وفي تلك اللحظة، تحركت ليلى خلفه، بصوتٍ غير صوتها: "هي دي الغرفة… اللي استنّت قرون عشان تتفتح." التفت نحوها مذهولًا. كانت واقفة، لكن عينيها فقدتا لونهما الطبيعي، أصبحتا بلون رمادي مضيء، وكأن ضوءًا ينبعث من داخلهما. خطت نحوه ببطء، وبدأت تتحدث بلغة لا تشبه أي لغة يعرفها، لكن ذهنه ترجم بعض الكلمات، كأنه يسمعها في أعماقه لا بأذنيه: "خمس أرواح... خمس غرف... دم وبوابة... من يلمس الرمز الخامس... يُختار للعبور." اقتربت منه حتى أصبحت على بعد خطوة واحدة. مدت يدها ولمست الباب، فاهتزت الأرض تحت أقدامهما. بدأت الرموز على الجدران تشتعل، دوائر من الضوء تدور حولهما بسرعة متزايدة. صوت الريح تعاظم، ثم دوى صرير معدني هائل عندما انشق الباب ببطء. خلفه، كان هناك فراغ. ليس غرفة، ولا نفق، بل ظلام متحرك، كثيف كالدخان، وفي عمقه ومضات من ضوء أزرق تشبه العيون. تراجع جوناثان خطوة للخلف، لكن ليلى تقدمت بلا خوف، وكأن قوة خفية تجذبها. صرخ فيها: "ليلى! ارجعي! متدخليش!" لكنها لم تتوقف. يدها امتدت نحو الفراغ، وعندما لامسته، ترددت موجة طاقة قوية جعلت الجدران تتشقق. صاح جوناثان من الألم، وسقط على ركبتيه. رأى الرؤى تعود من جديد أمام عينيه: الطبيب المؤسس للمستشفى، طقوس الذبح، القناع الذهبي على وجوه المرضى، والبوابة تبتلع أرواحهم واحدًا تلو الآخر. ثم سمع صوت الرجل نفسه، واضحًا في رأسه: "كنت أبحث عن الخلود… والخلود وجدني." فتح عينيه فوجد ليلى واقفة في وسط دائرة مضيئة على الأرض. كانت الرموز تدور حولها مثل دوامات نارية، وصوتها ارتفع بلغة غريبة، ثم ترجمت كلماته في ذهنه: "من الدم خُلق الممر، ومن الروح يُفتح الباب، ومن الجسد يُستكمل الطقس." صرخ جوناثان: "كفاية! انتي مش ليلى دلوقتي!" لكنها التفتت نحوه ببطء، وعلى وجهها نصف ابتسامة غامضة: "أنا آخر من حمل اللعنة... والبوابة محتاجة تضحيتين لتُغلق… أو لتبقى." اندفع نحوها محاولًا كسر الدائرة، لكن حين خطا داخلها، شعر بحرارة شديدة تضرب جسده. كل الضوء في الغرفة اشتعل فجأة، وظهر خلف الباب الأسود شكل ضخم — كيان بلا ملامح، فقط ظلّ يتحرك كأن جسده دخان حيّ. منه انطلقت عشرات الأذرع الشفافة، تمتد نحو الأرض وتلتف حول الرموز. ليلى بدأت تصرخ بصوتها الحقيقي هذه المرة، تصارع شيئًا لا يُرى، وجسدها يرتفع عن الأرض. مدّ جوناثان يده إليها بكل قوته، وتمكن من سحبها إلى خارج الدائرة، لكن اللحظة التي لامس فيها جسدها… انتقلت صورة كاملة إلى عقله: الماضي كلّه. رأى الطبيب المؤسس، د. صبري العطار، وهو يقف في الغرفة نفسها قبل خمسين عامًا، يقرأ من كتاب أسود مغطى بالدم، والمرضى المساكين مقيدون أمامه. رأى كيف فتح البوابة للمرة الأولى، وكيف خرج منها الظلام الذي التهم كل من في المستشفى. ورأى أيضًا ممرضة شابة تحمل قناعًا ذهبيًا وتغلق الطقس في اللحظة الأخيرة — ممرضة تشبه ليلى تمامًا. حين عاد إلى وعيه، كانت الأرض تهتز بقوة. الباب الأسود يتسع، والكيان بدأ يعبر فعلاً. أمسك جوناثان بكتاب صغير وجد بين الأنقاض — النسخة الأصلية من "نصوص العبور". قرأ بصوت مرتجف: "يا مَن ولدت من العدم، عُد إلى ظلك… لا باب لك في عالم الأحياء!" لكن الكيان لم يتراجع، بل زأر بصوتٍ هائل اهتزت له الجدران. ليلى نهضت ووقفت بجانبه، دموعها مختلطة بالعرق والدم، وقالت بصوت قوي: "لازم نقفلها من جوه!" تبادلا نظرة قصيرة، فيها كل الفزع والإصرار. ثم أمسكا بأيدي بعضهما، وتقدما نحو الدائرة. كل شيء كان يدور حولهما — الجدران، الرموز، الضوء، الزمن نفسه. وقبل أن يعبروا العتبة، سمع جوناثان آخر ما قالته ليلى: "لو رجع حد بعدنا… قولوله إن البوابة مش دايمًا بتقفل." ثم ابتلعهما الظلام معًا. وانفجر ضوء أزرق هائل، هزّ أرجاء المستشفى، تلاه صمت عميق، كأن العالم توقف عن التنفس. حين هدأ كل شيء، لم يبقَ من الغرفة سوى الباب الحجري القديم مغلقًا… وعليه نقش جديد لم يكن موجودًا من قبل: "باب العبور… لا يُفتح إلا بالدم."

📜 الفصل التاسع 📜

الهدوء الذي أعقب الانفجار كان مخيفًا أكثر من الصراخ نفسه. الهواء ثقيل كأن المكان فقد القدرة على التنفس. الغبار يتساقط من السقف كرماد بارد، والباب الحجري الذي انغلق للتوّ لا يزال يصدر صوت نخر خافت من الداخل، كما لو أن شيئًا ما ما زال حيًّا خلفه. فتح جوناثان عينيه ببطء. كان ممددًا على الأرض داخل الممر القديم، جسده مغطى بالتراب، ونور الكشاف مائل على وجهه. حاول أن يتحرك، فشعر بألم حارق في كتفه، لكنه أجبر نفسه على النهوض. نظر حوله فلم يجد ليلى. صاح بصوت مبحوح: "ليلى؟! فينِك؟!" لكن لم يأتِ أي رد، سوى صدى صوته وهو يرتطم بالجدران المتهالكة. الضوء في الممر بدأ يومض من جديد. كل ومضة تكشف ظلالًا تتحرك في نهاية الممر. ظلال بشرية كثيرة… تقترب. رفع الكشاف بيده المرتجفة، فظهرت أمامه وجوه شاحبة متآكلة، عيونها جوفاء، وجلودها باهتة كجدران المقبرة. كانت أرواح المرضى الذين ماتوا في المستشفى، يتجمّعون في صمت، ينظرون إليه جميعًا كأنهم ينتظرون شيئًا. تراجع خطوة، ثم سمع صوتًا مألوفًا يأتي من وسطهم — صوت ليلى. كانت تقف خلفهم، بملابسها الممزقة، وجهها شاحب لكن عينيها عاد إليهما لونهما الطبيعي. اقتربت ببطء، والجموع تنفرج لها الطريق. قالت بصوت ضعيف: "هو لسه مفتوح… البوابة لسه مفتوحة من جوه." اقترب منها بسرعة، أمسك بيديها، سألها بعصبية: "إزاي؟ إحنا قفلناها! أنا شُفت الباب بيتقفل!" نظرت إليه بعينين دامعتين: "قفلنا الجزء اللي للعالم البشري… بس الجزء التاني بقى مفتوح، والكيان هناك… بيستنى حد يبدّل مكانه." تراجع مذهولًا: "يعني... عايز ضحية؟!" هزّت رأسها ببطء. "اللي أسس المستشفى كان عايز يعيش للأبد، وفتح البوابة على أمل يبدّل روحه بروح من العالم التاني. فشل، لكن الطقس ما اكتملش… والنداء اتسجّل في الجدران. أول ما أنت شُفت الرمز ونشرته، النداء اشتغل تاني." صمت للحظة، الكلمات تخترق ذهنه كطعنة. هو السبب. هو اللي حرّك اللعنة من جديد. جلس على الأرض، رأسه بين يديه، وصوت الأنفاس الميتة حوله يزداد قربًا. همس: "يعني كل ده… بسببي؟" قالت ليلى: "مش بس بسببك… بسبب كل اللي حاولوا يعرفوا الحقيقة. المستشفى اتبنت فوق المقبرة القديمة كاختبار. الدكتور صبري العطار كان باحث زيّك، كان بيؤمن إن الموت مش نهاية، وإن الروح مجرد طاقة ممكن تُستدعى وتُخزن. استخدم أرواح الموتى كوقود لتجربته." مدت يدها إلى جيب معطفها وأخرجت شيئًا صغيرًا — صورة قديمة باهتة. ناولته إياها. نظر إليها، واتسعت عيناه. الصورة كانت للطبيب صبري العطار… وبجانبه امرأة تشبه ليلى تمامًا. قال مذهولًا: "دي… دي شبهك بالظبط!" ابتسمت بحزن: "دي جدتي… كانت الممرضة اللي أوقفت الطقس أول مرة. ودمها لسه بيحمل ختم البوابة، عشان كده كل لما حد يحاول يفتحها، أنا بحس بيها." وقف ببطء، عقله يغلي بالأفكار. الرموز، المقبرة، الكتاب، القناع… كلها أجزاء من تجربة فاشلة للخلود. قال بتوتر: "والرمز اللي في الفيديو؟ العين داخل الدائرة… ده معناه إيه؟" أجابت بصوت منخفض: "دي عين الحارس. الرمز اتنقش زمان عشان يحمي الطريق بين العالمين. لكن لما الدكتور صبري حاول يعكس معناه… بقى بوابة دعوة بدل حماية." اقترب منها أكثر، نظر في عينيها مباشرة: "وليه أنا؟ ليه البوابة اختارتني؟" أجابت: "لأنك كنت أول واحد شاف الرمز بعين صافية، من غير طمع ولا نية شر. البوابة بتختار اللي ممكن يكمّلها… أو يقفلها." تراجع خطوتين، وهو يتمتم كأنه يتحدث لنفسه: "يعني يا أكمّل طريق العطار… يا أضحي بكل حاجة عشان أقفلها." في تلك اللحظة، اهتزت الجدران من جديد، وانبعث ضوء أزرق قوي من الباب الحجري. صوت غريب خرج من داخله، صوت رجل يختلط بصدى عشرات الأرواح: "الاختيار الآن… يا مَن فتحت الباب… هل ستعبر؟" صرخت ليلى: "متسمعوش! دي مش أصواتهم! ده الكيان اللي بيقلدهم!" لكن جوناثان لم يتحرك. كان مأخوذًا بالصوت، كأنه يسمع نداءً من داخله. رأى أمام عينيه صورًا من طفولته، والدته وهي تموت في حادث، واللحظة التي قرر فيها أن يدرس ظواهر الحياة بعد الموت. الخلود كان حلمه القديم… والآن صار على بعد خطوة واحدة. أدار رأسه نحو ليلى وقال بهدوء غريب: "يمكن ده مصيري." أمسك يدها، ووضع شيئًا في راحة كفها — الكتاب الأسود الذي كان معه منذ البداية. قال بصوت ثابت: "لو حصللي حاجة… اقري الصفحة الأخيرة، فيها التعويذة اللي تقفل البوابة نهائي." صرخت: "جوناثان لا! هنقفلها سوا زي ما وعدتني!" لكنّه ابتسم بخفوت، ومشى نحو الباب الحجري. كل خطوة كانت تُحدث صدى ثقيلًا، والأرواح حوله تنحني كأنها تعرف ما سيحدث. حين وقف أمام الباب، رفع يده ولمسه. فُتح الباب مرة أخرى، لكن هذه المرة الضوء لم يكن أحمر ولا أزرق، بل أبيض ناصع يخترق الظلام كله. الكيان لم يظهر. فقط بحر من الضوء، وصوت واحد يهمس: "التبادل بدأ..." ليلى ركضت نحوه محاولة منعه، لكن الريح التي خرجت من الباب دفعتها للخلف. صرخت بأعلى صوتها: "جوووناثااان!" ابتسم لها للمرة الأخيرة، ثم دخل في الضوء… وفي اللحظة التي اختفى فيها، انغلق الباب بصوت صاعق، وارتدت موجة ضوء عنيفة هدمت جزءًا من السقف. سقطت ليلى على الأرض وهي تحتضن الكتاب، والدموع تغمر وجهها. حولها، بدأت الأرواح تتلاشى واحدة تلو الأخرى، كأنها أخيرًا تحررت. لكن الهمس لم يتوقف تمامًا… كان هناك صوت بعيد، ضعيف، يشبه صوت جوناثان نفسه يقول: "أنا لسه هنا… في الجهة التانية..." رفعت رأسها نحو الباب المغلق، تهمس: "استناك… بس المرة الجاية، مش هتدخل لوحدك."

📜 الفصل العاشر والأخير📜

كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجرًا، حين ساد الصمت أرجاء المستشفى المهجورة. الهواء صار أثقل، والضباب تحوّل إلى دخان كثيف ينبعث من الشقوق في الأرض. في الطابق السفلي، وقفت ليلى وسط دائرة الرموز المتوهجة، ممسكة بالكتاب القديم الذي أعطاها جوناثان. صفحات الكتاب كانت ترتجف كأنها تتنفس، وأحرفها تتبدل كل ثانية كأنها حية. كانت الأرواح تدور حولهما مثل دوامات من الغبار المضيء، تتشكل أحيانًا على هيئة وجوه دامعة، وأحيانًا على صرخات مكتومة تتلاشى في العدم. قال جوناثان بصوت مبحوح وهو ينظر إليها بخوف ودهشة: "ليلى... هذه الصفحة الأخيرة، يجب أن تُقرأ الآن، وإلا لن تُغلق البوابة أبدًا." نظرت إليه بعينين يكسوهما الرعب والإصرار، وفتحت الصفحة الأخيرة ببطء. كانت الصفحة سوداء تمامًا، لا حروف فيها، فقط نقشٌ خافت يشبه عينًا تبكي دمًا. ثم بدأت الكلمات تظهر تدريجيًا باللون الأحمر الداكن، كأنها تُكتب بالدم في تلك اللحظة. ارتعشت يدا ليلى، وبدأت تقرأ بصوتٍ مرتجف: "باسم من لا يُرى، وبحروفٍ لا تُنطق، نغلق الباب بين الحياة والموت... ونترك الراحلين في سلام." بمجرد أن أنهت الجملة الأولى، دوّت صرخة هائلة في أرجاء المستشفى. الأبواب انفجرت من مفاصلها، والنوافذ تحطمت. بدأت الجدران تنزف من شقوقها، والضوء الأحمر من الدائرة في الأرضية اشتعل بشدة حتى أعمى البصر. صرخ جوناثان محاولًا الاقتراب منها: "ليلى! ابتعدي عن الدائرة!" لكنها لم تتحرك. كانت كأنها ممسوسة بقوةٍ غير بشرية، عيناها انقلبتا إلى بياض ناصع، وصوتها لم يعد صوتها. قالت بنغمةٍ عميقةٍ غريبة لا تشبهها: "لقد انتظرنا هذا اليوم... طويلاً." ثم سقطت فجأة على الأرض، والكتاب انفتح من تلقاء نفسه، وانبعث منه نورٌ ذهبي اخترق السقف، مزق الظلام، وأضاء المستشفى المهجورة بأكملها. تجمعت الأرواح حول النور، وبدأت تختفي واحدة تلو الأخرى، كأنها تُسحب إلى الداخل، إلى مكانٍ آخر... كانت تلك لحظة إغلاق بوابة الخلود. لكن البوابة لم تُغلق في صمت. بدأ المبنى كله يهتز بعنف، وكأن الأرض نفسها ترفض ما يحدث. تساقطت قطع الخرسانة من السقف، والأجهزة الصدئة انفجرت بشررٍ متطاير. صرخ جوناثان وهو يسحب ليلى التي بالكاد استعادت وعيها: "انهضي! المكان ينهار!" فتحت عينيها بصعوبة وهمست: "هل... انتهى الأمر؟" قال وهو يجرّها نحو الممر الطويل المليء بالدخان: "لا أعلم، لكن علينا الخروج فورًا!" انطلقا عبر الممرات التي كانت تشتعل من الأطراف. رائحة الدخان والمعدن المحترق تملأ أنفيهما، وأصوات الأرواح تختلط مع صرير الحديد. كانت كل خطوة وكأنها آخر ما سيخطوانه في حياتهما. حين وصلا إلى المدخل الرئيسي، سمعا صوت انفجارٍ ضخم خلفهما. التفت جوناثان ليرى الطابق السفلي يبتلع نفسه، وكأن الأرض انشقّت لتبتلع أسرارها. أمسك بيد ليلى بقوة، وركضا خارجًا من الباب الذي كان مغلقًا لسنوات، قبل أن يسقط السقف خلفهما بثوانٍ قليلة. سقطا على الرمال الباردة خارج المستشفى، يتنفسان بصعوبة، وعيونهما شاخصة نحو المبنى المشتعل. الضوء الأحمر اختفى فجأة، ولم يبقَ سوى وهج رمادي خافت. همست ليلى وهي تنظر إلى الأفق: "لقد رحلوا... جميعًا." جلس جوناثان بجوارها، وجهه مغطى بالغبار والرماد، وقال بصوتٍ متعب: "البوابة أُغلقت... ولكن بثمنٍ كبير." رفعت رأسها إليه وسألته بقلق: "وماذا عنك؟ هل ستعود لبلدك؟" أجاب بعد صمت طويل: "لن يفهموا ما حدث هنا... وربما لا يجب أن يعرفوا." في تلك اللحظة، اهتزت الأرض مرة أخرى، لكن هذه المرة بخفة، كأنها تنهدت بعد راحةٍ طويلة. ثم ساد الصمت. المكان أخيرًا هدأ... أو هكذا ظنّا. بعد أسبوعين، في أحد المقاهي بالقاهرة، كانت ليلى تجلس أمام جوناثان، بين يديها الكتاب المغلق. قالت له: "الصفحة الأخيرة... احترقت. لم يتبقَّ منها شيء." نظر إليها بابتسامةٍ حزينة وقال: "ربما هذا أفضل. بعض الأبواب يجب أن تبقى مغلقة." وضعت ليلى الكتاب في صندوقٍ معدني صغير وأغلقته بإحكام. لكن قبل أن تغلق الغطاء تمامًا، لمحت شيئًا غريبًا في الصفحة الأولى — رمز العين الحمراء عاد للظهور، خافتًا، نابضًا كقلبٍ صغير. شهقت وهي تغلق الصندوق بسرعة. قال جوناثان وهو ينهض: "احفظيه في مكانٍ آمن... بعيد عن الجميع." ثم خرج من المقهى واختفى في الزحام، تاركًا خلفه دفتر ملاحظاته القديم على الطاولة. فتحت ليلى الدفتر لتجد جملة كتبها بخطه المرتب: "الموت ليس النهاية... بل عتبة أخرى من البحث." بعد ثلاث سنوات... ظهر على الإنترنت مقطع فيديو جديد بعنوان: “العودة إلى فيوم هوسبيتال” الصورة مهتزة، لرجل مجهول الهوية يدخل المستشفى المتهدمة، التي أصبحت الآن مجرد أطلال مغطاة بالرمال. كان يحمل كاميرا وكشافًا صغيرًا، تمامًا كما فعل جوناثان قبل سنوات. الصوت في الخلفية بدا مشوشًا، حتى تردد همس مألوف... صوت جوناثان نفسه، يأتي من العدم، هامسًا ببرودٍ مخيف: “ما زلت هنا... والبوابة لم تُغلق بعد.” تجمدت الصورة فجأة. ثم انطفأ كل شيء. وظهر على الشاشة سطرٌ واحد بخطٍ باهتٍ أحمر: "فيوم هوسبيتال — لا تُعيدوا فتح ما أُغلق." "النهاية... أو ربما البداية الجديدة." أتمنى أن تكونوا قد استمتعتم بقراءة روايتي… انتظروني قريبًا مع رواية أخرى أكثر تشويقًا ومتعة في القراءة. إذا أعجبتكم الرواية، لا تبخلوا بإبداء رأيكم؛ فتعليقاتكم وتشجيعكم ستكون مصدر إلهام لي لمواصلة رحلتي الأدبية. مع خالص تحياتي، الكاتبة والسيناريست فاطمة حسن جابر دمتم بألف خير

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

إقرأ الأن

فعاليات معرض القاهرة الدولي2025

فتح أستقبال الأعمال